فصل: كتاب المأذون

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الاختيار لتعليل المختار ***


كتاب أدب القاضي

الأدب‏:‏ هو التخلق بالأخلاق الجميلة والخصال الحميدة في معاشرة الناس ومعاملتهم، وأدب القاضي‏:‏ التزامه لما ندب إليه الشرع من بسط العدل ورفع الظلم، وترك الميل والمحافظة على حدود الشرع، والجري على سنن السنة على ما يأتي إن شاء الله تعالى‏.‏ والقضاء في اللغة له معان‏:‏ يكون بمعنى الإلزام، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 23‏]‏ وبمعنى الإخبار، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وقضينا على بني إسرائيل ‏(‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 4‏]‏ وبمعنى الفراغ، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا قضيت الصلاة‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 10‏]‏ وبمعنى التقدير، يقال‏:‏ قضى الحاكم النفقة‏:‏ أي قدرها، ويستعمل في إقامة شيء مقام غيره، يقال‏:‏ قضى فلان دينه‏:‏ أي أقام ما دفعه إليه مقام ما كان في ذمته‏.‏ وفي الشرع‏:‏ قول ملزم يصدر عن ولاية عامة، وفيه معنى اللغة، فكأنه ألزمه بالحكم وأخبره به، وفرغ من الحكم بينهما أو فرغا من الخصومة، وقدر ما كان عليه وما له، وأقام قضاءه مقام صلحهما وتراضيهما، لأن كل واحد منهما قاطع للخصومة‏.‏ اعلم أن ‏(‏القضاء بالحق من أقوى الفرائض وأشرف العبادات‏)‏ وما من نبي من الأنبياء إلا وأمره الله بالقضاء، وأثبت لآدم اسم الخليفة، وقال لنبينا عليه الصلاة والسلام‏:‏‏)‏ وأن احكم بينهم بما أنزل الله‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 49‏]‏ وقال لداود‏:‏‏{‏فاحكم بين الناس بالحق‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 26‏]‏ ولأن فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإظهار الحق، وإنصاف المظلوم من الظالم، وإيصال الحق إلى مستحقه، ولأجل هذه الأشياء شرع الله تعالى الشرائع، وأرسل الرسل عليهم الصلاة والسلام‏.‏

والقضاء على خمسة أوجه‏:‏ واجب، وهو أن يتعين له، ولا يوجد من يصلح غيره، لأنه إذا لم يفعل أدى إلى تضييع الحكم، فيكون قبوله أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر، وإنصاف المظلومين من الظالمين وأنه فرض كفاية‏.‏ ومستحب، وهو أن يوجد من يصلح لكن هو أصلح وأقوم به‏.‏ ومخيّر فيه، وهو أن يستوي هو وغيره في الصلاحية والقيام به، فهو مخيّر إن شاء قبله، وإن شاء لا‏.‏ ومكروه، وهو أن يكون صالحا للقضاء، لكن غيره أقوم به وأصلح وحرام، وهو أن يعلم من نفسه العجز عنه، وعدم الإنصاف فيه لما يعلم من باطنه من إتباع الهوى ما لا يعرفونه فيحرم عليه، ويكون رزقه وكفايته وكفاية أهله وأعوانه ومن يموّنهم من بيت المال، لأنه محبوس لحق العامة، فلولا الكفاية ربما طمع في أموال الناس، ولهذا قالوا‏:‏ يستحب للإمام أن يقلد القضاء من له ثروة لئلا يطمع في أموال الناس وإن تنزه فهو أفضل‏.‏ وأبو بكر الصديق رضي الله عنه لما ولي الخلافة خرج إلى السوق ليكتسب، فرده عمر رضي الله عنه، ثم أجمعوا على أن جعلوا له كل يوم درهمين، وكان عنده عباءة قد اشتراها من رزقه، فلما حضرته الوفاة قال لعائشة رضي الله عنها أعطيها عمر ليردها إلى بيت المال، فدل على أنه إذا استغنى لا يأخذ، وهو المختار‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والأولى أن يكون القاضي مجتهدا‏)‏ لأن الحادثة إذا وقعت يجب طلبها من الكتاب ثم من السنة ثم من الإجماع، فإن لم يوجد في شيء من ذلك استعمل الرأي والاجتهاد، ويشهد له حديث معاذ حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وولاه الحكم بها، فقال له‏:‏ «كيف تصنع إن عرض لك حكم»‏.‏ ‏؟‏ قال‏:‏ أقضي بما في كتاب الله، قال‏:‏ «فإن لم تجد»‏.‏ ‏؟‏ قال‏:‏ فبسنة رسول الله، قال‏:‏ «فإن لم تجد»‏.‏ ‏؟‏ قال‏:‏ أجتهد برأيي، فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي الله ورسوله»‏.‏ وإنما لم يذكر الإجماع لأنه لا إجماع مع وجوده عليه الصلاة والسلام، لأنه بمنزلة القياس مع النص بعده عليه الصلاة والسلام‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فإن لم يوجد فيجب أن يكون من أهل الشهادة موثوقا به في دينه وأمانته وعقله وفهمه، عالما بالفقه والسنة، وكذلك المفتي‏)‏ أما أهلية الشهادة، فلأنها من باب الولاية والقضاء أقوى وأعم ولاية، وكل من كان من أهل الشهادة كان من أهل القضاء، ومن لا فلا؛ ولا تجوز ولاية الصبي والمجنون والعبد لأن لا ولاية لهم، ولا الأعمى لأنه ليس من أهل الشهادة، ولجود الالتباس عليه في الصوت وغيره؛ والأطروش يتجوز لأنه يفرق بين المدعي والمدعى عليه ويميز بين الخصوم، وقيل لا يجوز لأنه لا يسمع الإقرار، فربما ينكر إذا استعاده فتضيع حقوق الناس؛ والفاسق يجوز قضاؤه كما تجوز شهادته، ولا ينبغي أن يولى كما لا ينبغي أن يعمل بشهادته، وفي النوادر عن أصحابنا أنه لا يجوز قضاؤه، ولو فسق بعد الولاية استحق العزل ولا ينعزل، وقيل ينعزل لأن الذي ولاه ما رضي به إلا عدلا، ويشترط دينه وأمانته لأنه يتصرف في أموال الناس ودمائهم ولا يوثق على ذلك من لا أمانة له، وكذلك العقل لأنه الأصل في الأمور الدينية‏.‏ وأما الفهم فلتفهم معاني الكتاب والحديث وما يرد عليه من القضايا والدعاوى وكتب القضاة وغير ذلك، وأما العلم بالفقه والسنة فلأنه إذا لم يعلم بذلك لا يقدر على القضاء ولا يعلم كيف يقضي‏.‏ وعن أبي يوسف‏:‏ لأن يكون القاضي ورعا أحب إليّ من أن يكون مجتهدا‏.‏ وقال‏:‏ إذا كان عالما بالفرائض يكفي في جواز القضاء‏.‏ وقيل يجوز تقليد الجاهل لأنه يقدر على القضاء بالاستفتاء، والأولى أن يكون عالما قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «من قلد إنسانا عملا في رعيته من هو أولى منه فقد خان الله ورسوله وجماعة المسلمين»‏.‏ وكذلك المفتي، لأن الناس يرجعون إلى فتواه في حوادثهم ويقتدون به ويعتمدون على قوله، فينبغي أن يكون بهذه الأوصاف؛ والفاسق لا يصلح أن يكون مفتيا، لأنه لا يقبل قوله في أخبار الديانات؛ وقيل يصلح لأنه يتحرز لئلا ينسب إلى الخطأ‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يطلب الولاية‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام لعبد الرحمن بن سمرة‏:‏ «يا عبد الرحمن لا تسأل الولاية، فإنك إن سألتها وكلت إليها، وإن أعطيتها أعنت عليها»‏.‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «من طلب عملا فقد غلّ»‏.‏

وعن عمر رضي الله عنه‏:‏ ما عدل من طلب القضاء‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويكره الدخول فيه لمن يخاف العجز عن القيام به‏)‏ لما فيه من المحذور، وقيل يكره الدخول لمن يدخله مختارا لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «من ولي القضاء فكأنما ذبح بغير سكين»‏.‏ قيل معناه إذا طلب، وقيل إذا لم يكن أهلا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا بأس به لمن يثق من نفسه أداء فرضه‏)‏ لأن كبار الصحابة والتابعين تقلدوه وكفي بهم قدوة، والنبي عليه الصلاة والسلام ولي عليا ولو كان مكروها لما ولاه‏.‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إذا حكم الحاكم فأصاب فله أجران»‏.‏ واختيار أبي بكر الرازي الامتناع عنه؛ وقيل الدخول فيه رخصة والترك عزيمة وهو الصحيح ‏(‏ومن تعين له تفترض عليه الولاية‏)‏ وقد بيناه، ولو امتنع لا يجبر عليه؛ ولو كان في البلد جماعة يصلحون وامتنعوا والسلطان يفصل بين الخصوم لم يأثموا، وإن كان لا يمكنه ذلك أثموا، وإن امتنعوا حتى قلد جاهلا أثم الكل‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويجوز التقليد من ولاة الجور‏)‏ لأن الصحابة تقلدوه من معاوية وكان الحق مع علي رضي الله عنه، والتابعون تقلدوه من الحجاج مع جوره، ولأن فيه إقامة الحق ودفع الظلم حتى لو لم يمكنه من ذلك لا يجوز له الولاية منه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويجوز قضاء المرأة فيما تقبل شهادتها فيه‏)‏ إلا أنه يكره لما فيه من محادثة الرجال ومبنى أمرهن على الستر‏.‏ وروي عن أبي حنيفة أنه قال‏:‏ لا يترك القاضي على القضاء إلا حولا، لأنه إذا اشتغل بالقضاء ينسى العلم فيعزله السلطان بعد الحول ويستبدل به حتى يشتغل بالدرس قال‏:‏ ‏(‏فإذا قلد القضاء‏)‏ ينبغي له أن يتقي الله تعالى ويؤثر طاعته ويعمل لمعاده ويقصد إلى الحق بجهده فيما تقلده و ‏(‏يطلب ديوان القاضي الذي قبله وينظر في خرائطه وسجلاته‏)‏ لأنها وضعت لتكون حجة عند الحاجة، فتجعل في يد المتولي لأنه يحتاج إليها ليعمل بها‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وعمل في الودائع وارتفاع الوقوف بما تقوم به البينة‏)‏ لأنها حجة شرعية ‏(‏أو باعتراف من هو في يده‏)‏ لأنه أمين ‏(‏ولا يعمل بقول المعزول‏)‏ لأنه شاهد وشهادة الفرد لا عمل بها‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏إلا أن يكون هو الذي سلمها إليه‏)‏ لأن يده كيده فيكون أمينا فيه، وينبغي أن يبعث رجلين من ثقاته والواحد يكفي، فيقبضان من المعزول ديوانه، وهو ما ذكرنا من الخرائط والسجلات، فيجمعان كل نوع في خريطة حتى لا يشتبه على القاضي، ويسألان المعزول شيئا فشيئا لينكشف ما يشكل عليهما ويختمان عليه، وهذا السؤال ليس للإلزام بل لينكشف به الحال، فإن أبى المعزول أن يدفع إليهما النسخ أجبر على ذلك، سواء كان البياض من بيت المال وهو ظاهر لأنه لمصالح المسلمين، أو من الخصوم لأنهم وضعوها في يد العمل بها، أو من ماله لأنه فعله تدينا لا تمولا، ويأخذان الودائع وأموال اليتامى ويكتبان أسماء المحبوسين ويأخذان نسختهم من المعزول لينظر المولى في أحوالهم فمن اعترف بحق أو قامت عليه بينة ألزمه عملا بالحجة، وإلا نادى عليه في مجلسه من كان يطالب فلانا المحبوس بحق فليحضر، فمن حضر وادعى عليه ابتدأ الحكم بينهم، وينادى أياما على حسب ما يرى القاضي وإن لم يحضر لا يخليه حتى يستظهر في أمره، فيأخذ منه كفيلا بنفسه لاحتمال أنه محبوس بحق غائب وهو الظاهر، لأن فعل المعزول لا يكون عبثا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويجلس للقضاء جلوسا ظاهرا في المسجد‏)‏ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفصل بين الخصوم في المسجد، وكان الخلفاء الراشدون بعده، ودكة علي رضي الله عنه في مسجد الكوفة إلى الآن معروفة‏.‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إنما بنيت المساجد لذكر الله وللحكم»‏.‏ ولئلا يشتبه على الغرباء مكانه ‏(‏والجامع أولى‏)‏ لأنه أشهر، وإن كان الخصم حائضا أو نفساء خرج القاضي إلى باب المسجد فنظر في خصومتها أو أمر من يفصل بينهما، كما لو كانت المنازعة في دابة فإنه يخرج لاستماع الدعوى والإشارة إليه في الشهادة، وإن جلس في بيت جاز، ويأذن للناس بالدخول فيه، ولا يمنع أحدا من الدخول عليه، ويجلس معه من كان يجلس معه في المسجد، ويكون الأعوان بالعبد عنه بحيث لا يسمعون ما يكون بينه وبين ما تقدم إليه للخصومة، ويستحب أن يجلس معه قريبا منه قوم من أهل الفقه والديانة، ولا بأس بأن يجلس وحده إذا كان عالما بالقضاء‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويتخذ مترجما وكاتبا عدلا مسلما له معرفة بالفقة‏)‏ لأنه إذا لم يكن عدلا لا تؤمن خيانته، وإذا لم يكن مسلما لا يؤمن أن يكتب ما لا تقتضيه الشريعة، وإذا لم يكن فقيها لا يعرف كتبة السجلات وما يحتاج إليه القاضي من الأحكام، ويجلس ناحية عنه حيث يراه حتى لا يخدع بالرشوة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويسوى بين الخصمين في الجلوس والإقبال والنظر والإشارة‏)‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء ‏(‏ ‏[‏النساء‏:‏ 135‏]‏ أي بالعدل والعدل التسوية‏.‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إذا ابتلى أحدكم بالقضاء فليسوّ بين الخصوم في المجلس والإشارة والنظر»‏.‏ وفي كتاب عمر رضي الله عنه‏:‏ آس بين الناس في مجلسك ووجهك وعدلك، ومعناه ما ذكرنا، ثم نبه على العلة فقال‏:‏ حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا يخاف ضعيف جورك، ولأنه إذا فضل أحدهما ينكسر قلب الآخر فلا ينشرح للدعوى والجواب، وينبغي أن يجلسوا بين يدي القاضي جثوَّا ولا يجلسهما في جانب، ولا أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، وإذا تقدم إليه الخصمان إن شاء بدأهما فقال ما لكما، وإن شاء سكت حتى يتكلما، فإذا تكلم أحدهما أسكت الآخر ليفهم دعواه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يسارّ أحدهما ولا يلقنه حجته‏)‏ لما بينا؛ ولما فيه من التهمة ‏(‏ولا يضحك لأحدهما‏)‏ لأن ذلك يجرئه على خصمه ‏(‏ولا يمازحهما ولا أحدهما‏)‏ لأنه يخل بهيبة القضاء ‏(‏ولا يضيف أحدهما دون الآخر‏)‏ لما بينا، وقد ورد النهي عنه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يقبل هدية أجنبي لم يهد له قبل القضاء‏)‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «هدايا الأمراء غلول»‏.‏ ولأنه إنما أهدى له للقضاء ظاهرا فكان آكلا بالقضاء فأشبه الرشوة، بخلاف من جرت عادته بمهاداته قبل القضاء، لأن الظاهر أنه جرى على عادته حتى لو زاد على العادة أو كان له خصومة لا يقبلها، والقريب على هذا التفصيل‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يحضر دعوة إلا العامة‏)‏ كالعرس والختان لأنه لا تهمة فيها والإجابة سنة، ولا يجيب الخاصة لمكان التهمة إلا إذا كانت من قريب أو من جرت عادته بذلك قبل القضاء على التفصيل المتقدم، والعشرة فما دونها خاصة وما فوقها عامة، وقيل الخاصة ما لو علم أن القاضي لا يحضرها لا يعملها‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويعود المرضى ويشهد الجنائز‏)‏ لأنها من حقوق المسلم على المسلم على ما نطق به النص، ولا يطيل مكثه في ذلك المجلس، ولا يمكن أحدا من التكلم فيه بشيء من الخصومات‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فإن حدث له همّ أو نعاس، أو غضب أو جوع، أو عطش، أو حاجة حيوانية كف عن القضاء‏)‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لا يقضي القاضي وهو غضبان»‏.‏ وفي رواية ‏(‏وهو شبعان‏)‏ ولأنه يحتاج إلى الفكر، وهذه الأعراض تمنع صحة الفكر فتخل بالقضاء، ويكره له صوم التطوع يوم القضاء، لأنه لا يخلو عن الجوع، ولا يتعب نفسه بطول الجلوس لأنه ربما ضجر ومل ويقعد طرفي النهار؛ وإذا طمع في رضي الخصمين ردهما مرة ومرتين لقول عمر رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏ردوا الخصوم حتى يصطلحوا، وإن لم يطمع أنفذ القضاء بينهما لعدم الموجب للتأخير‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يبيع ولا يشتري في المجلس لنفسه‏)‏ لما فيه من التهمة، ولا بأس في غير المجلس‏.‏ وعن أبي حنيفة رحمه الله يكره أيضا، وإنما يبيع ويشتري ممن لا يعرفه ولا يحابيه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يستخلف على القضاء إلا أن يفوّض إليه ذلك‏)‏ لأنه كالوكيل عن الإمام، والوكيل ليس له أن يوكل إلا أن يؤذن له‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يقضي على غائب‏)‏ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يا علي لا تقض لأحد الخصمين حتى تسمع كلام الآخر‏)‏ ولأن القضاء لقطع المنازعة، ولا منازعة دون الإنكار فلا وجه إلى القضاء‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏إلا أن يحضر من يقوم مقامه‏)‏ إما بإنابته كالوكيل، أو بإنابة الشرع كالوصي من جهة القاضي ‏(‏أو ما يكون ما يدعيه على الغائب سببا لما يدعيه على الحاضر‏)‏ كمن ادعى دارا في يد رجل فأنكر فأقام المدعي البينة أنه اشتراها من فلان الغائب يقضي بها على الحاضر والغائب، وكذا لو ادعى شفعة وأنكر ذو اليد الشراء، فأقام البينة أن ذا اليد اشتراها من الغائب يقضي على الحاضر والغائب جميعا، وكذا إذا شهدا على رجل فقال هما عبدان، فأقام المشهود له البينة أن مولاهما أعتقهما حكم بعتقهما في حق الحاضر والغائب جميعا‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في عمل القاضي بحكم قاضي آخر‏]‏

‏(‏وإذا رفع إليه قضاء قاض أمضاه إلا أن يخالف الكتاب أو السنة المشهورة أو الإجماع‏)‏ وأصله أن القاضي إذا كان ممن يجور قضاؤه فقضى بقضية يسوغ فيها الاجتهد لم يجز لأحد من القضاة نقضه، لأن الاجتهاد الثاني مثله والأول ترجيح بالسبق لاتصال القضاء به‏.‏ وروي أن شريحا قضى بقضاء خالف فيه عمر وعليا رضي الله عنهما، فلم يفسخاه لوقوعه من قاض جائز الحكم فيما يسوغ فيه الاجتهاد‏.‏ وعن عمر رضي الله عنه أنه قضى في الجد بقضايا مختلفة، فقيل له، فقال ذاك على ما قضينا، وهذا على ما نقضي، ولم يفسخ الأول؛ ولا اجتهاد مع الكتاب ولا مع السنة المشهورة، إذ لا اجتهاد إلا عند عدمهما، لما تقدم من حديث معاذ، ولا مع إجماع الجمهور لأنه خلاف وليس باختلاف، والمراد اختلاف الصدر الأول‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يجوز قضاؤه لمن لا تقبل شهادته له‏)‏ لأن المعنى الذي ترد الشهادة له في القضاء أقوى لأنه ألزم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويجوز لمن قلده وعليه‏)‏ لأنه نائب عن المسلمين لا عنه، ولهذا لا ينعزل بموته‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإذا علم بشيء من حقوق العباد في زمن ولايته ومحلها جاز له أن يقضي به‏)‏ لأن علمه كشهادة الشاهدين وبل أولى، لأن اليقين حاصل بما علمه بالمعاينة والسماع، والحاصل بالشهادة غلبة الظن، والإجماع على أن قوله على الانفراد مقبول فيما ليس خصما فيه، ومتى قال حكمت بكذا نفذ حكمه‏.‏

وأما ما علمه قبل ولايته أو في غير محل ولايته لا يقضي به عند أبي حنيفة رضي الله عنه، نقل ذلك عن عمر وشريح رضي الله عنهما‏.‏

وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله‏:‏ يقضي كما في حال ولايته ومحلها لما مر‏.‏ وجوابه أنه في غير مصره وغير ولايته شاهد لا حاكم، وشهادة الفرد لا تقبل، وصار كما إذا علم ذلك بالبينة العادلة ثم ولي القضاء فإنه لا يعمل بها‏.‏ وأما الحدود فلا يقضي بعلمه فيها لأنه خصم فيها، لأنها حق الله تعالى وهو نائبه إلا في حد القذف فإنه يعمل بعلمه لما فيه من حق العبد، وإلا في السكر إذا وجد سكران، أو من به أمارات السكر فإنه يعزره‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والقضاء بشهادة الزور ينفذ ظاهرا وباطنا في العقود والفسوخ كالنكاح، والطلاق، والبيع، وكذلك الهبة، والإرث‏)‏ وقالا‏:‏ لا ينفذ باطنا‏.‏ وصورته شهد شاهدان بالزور بنكاح امرأة لرجل فقضى بها القاضي نفذ عنده حتى حل للزوج وطؤها خلافا لهما؛ ولو شهدا بالزور على رجل أنه طلق امرأته بائنا فقضى القاضي بالفرقة ثم تزوجها آخر جاز؛ وعندهما إن جهل الزوج الثاني ذلك حل له وطؤها إتباعا للظاهر، لأنه لا يكلف علم الباطن وإن علم بأن كان أحد الشاهدين لا يحل، ولو وطئها الزوج الأول كان زانيا ويحد‏.‏

وقال محمد‏:‏ يحل له وطؤها، وقال أبو يوسف‏:‏ لا يحل له، لأن قول أبي حنيفة أورث شبهة فيحرم الوطء احتياطا، ولا ينفذ في معتدة الغير ومنكوحته بالإجماع، لأنه لا يمكن تقديم النكاح على القضاء، وفي الأجنبية أمكن ذلك فيقدم تصحيحا له قطعا للمنازعة، وينفذ ببيع الأمة عنده حتى يحل للمشتري وطؤها، وينفذ في الهبة والإرث حتى يحل للمشهود له أكل الهبة والميراث، وروي عنه أنه لا ينفذ فيهما‏.‏

لهما قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏إنكم لتختصمون إليّ، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، وإنما أنا بشر أقضي بما أسمع، فمن قضيت له من مال أخيه شيئا بغير حقه فإنما أقطع له قطعة من النار‏)‏ وأنه عام فيعم جميع الحقوق والعقود والفسوخ وغير ذلك، فينبغي أن يكون الحكم في الباطن كهو عند الله تعالى، وأما الظاهر فالحكم لازم على ما أنفذه القاضي‏.‏

قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أنا أقضي بالظاهر والله يتولى السرائر‏)‏ وله ما روي أن رجلا خطب امرأة وهو دونها في الحسب فأبت أن تتزوجه، فادعى أنه تزوجها، وأقام شاهدين عند علي رضي الله عنه، فحكم عليها بالنكاح، فقالت‏:‏ إني لم أتزوجه وإنهم شهود زور فزوجني منه، فقال علي رضي الله عنه‏:‏ شاهداك زوجاك وأمضى عليها النكاح، ولأنه قضى بأمر الله تعالى بحجة شرعية فيما له ولاية الإنشاء فيجعل إنشاء تحرزا عن الحرام، وحديثهما في المال صريح ونحن نقول به، فإن قضاء القاضي في الأملاك المرسلة لا ينفذ بشهادة الزور بهذا الحديث، ولقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 188‏]‏ وروي أنها نزلت فيه، ولأن القاضي لا يملك إثبات الملك بدون السبب، فإنه لا يملك دفع مال زيد إلى عمرو‏.‏

أما العقود والفسوخ فإنه يملك إنشاءهما فإنه يملك بيع أمة زيد وغيرها من عمرو حال غيبته وخوف الهلاك فإنه يبيعه للحفظ، وكذلك لو مات ولا وصي له، ويملك إنشاء النكاح على الصغير والصغيرة والفرقة في العنين وغير ذلك، فثبت أن له ولاية الإنشاء في العقود والفسوخ، فيجعل القضاء إنشاء احترازا عن الحرام، ولا يملك ذلك في الأملاك المرسلة بغير أسباب فتعذر جعله إنشاء فبطل، ثم نقول‏:‏ لو لم ينفذ باطنا، فلو قضى القاضي بالطلاق لبقيت حلالا للزوج الأول باطنا والثاني ظاهرا؛ ولو ابتلى الثاني بمثل ما ابتلى به الأول حلت للثالث أيضا، وهكذا رابع وخامس، فتحل للكل في زمان واحد، وفيه من الفحش ما لا يخفى؛ ولو قلنا بنفاذه باطنا لا تحل إلا لواحد ولا فحش فيه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في الحبس‏]‏

الأصل في وجوب الحبس قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ليّ الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته‏)‏ والعقوبة‏:‏ الحبس، وروي ذلك عن السلف، ولأن القاضي نصب لإيصال الحقوق إلى أربابها، فإذا امتنع المطلوب عن الأداء فعلى القاضي جبره عليه، ولا يجبره بالضرب إجماعا فتعين الحبس‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإذا ثبت الحق للمدعي وسأله حبس غريمه لم يحبسه‏)‏ لأنه لم يظهر ظلمه، حتى لو كان ظهر ظلمه وجحوده عند غيره حبسه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وأمره بدفع ما عليه، فإن امتنع حبسه‏)‏ لأنه ظهر ظلمه، وهذا إذا ثبت حقه بالإقرار، أما إذا ثبت بالبينة حبسه أول مرة، لأن البينة لا تكون إلا بعد الجحد فيكون ظالما، ولا يسأله القاضي‏:‏ ألك مال ‏؟‏ ولا من المدعي إلا أن يطلب المدعى عليه من القاضي أن يسأل المدعي فيسأله ‏(‏فإن أقر أنه معسر خلى سبيله‏)‏ لأنه استحق الإنظار بالنص ولا يمنعه من الملازمة‏.‏ ‏(‏وإن قال المدعي هو موسر، وهو يقول أنا معسر، فإن كان القاضي يعرف يساره، أو كان الدين بدل مال كالثمن والقرض، أو التزمه كالمهر والكفالة وبدل الخلع ونحوه حبسه‏)‏ لأن الظاهر بقاء ما حصل في يده والتزامه يدل على القدرة ‏(‏ولا يحبسه فيما سوى ذلك إذا ادعى الفقر‏)‏ لأنه الأصل، وذلك مثل ضمان المتلفات وأروش الجنايات ونفقة الأقارب والزوجات وإعتاق العبد المشترك ‏(‏إلا أن تقوم البينة أن له مالا فيحبسه‏)‏ لأنه ظالم ‏(‏فإذا حبسه مدة يغلب على ظنه أنه لو كان له مال أظهره وسأل عن حاله، فلم يظهر له مال خلى سبيله‏)‏ لأن الظاهر إعساره فيستحق الإنظار، وكذلك الحكم لو شهد شاهدان بإعساره، وتقبل بينة الإعسار بعد الحبس بالإجماع وقبله لا‏.‏ والفرق أنه وجد بعد الحبس قرينة، وهو تحمل شدة الحبس ومضايقه وذلك دليل إعساره، ولم يوجد ذلك قبل الحبس، وقيل تقبل في الحالتين ‏(‏وإن قامت البينة على يساره أبّد حبسه‏)‏ لظلمه‏.‏ واختلفوا في مدة الحبس، قيل شهرين أو ثلاثة، وبعضهم قدره بشهر، وبعضهم بأربعة وبعضهم بستة‏.‏ والصحيح ما ذكرت لك أولا، لأن الناس يختلفون في احتمال الحبس ويتفاوتون تفاوتا كثيرا فيفوض إلى رأي القاضي‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويحبس الرجل في نفقة زوجته‏)‏ لأنه حق مستحق عليه وقد منعه فيحبس لظلمه ‏(‏ولا يحبس والد في دين ولده‏)‏ وكذا الأجداد والجدات لأنه ليس مصاحبة بالمعروف وقد أمر بها ‏(‏إلا إذا امتنع من الإنفاق عليه‏)‏ لأن في ترك الأنفاق عليه هلاكه، كما لو صال الأب على الولد فللولد دفعه بالقتل؛ وإذا مرض المحبوس، فإن كان له من يخدمه في الحبس لم يخرجه، وإلا أخرجه لئلا يهلك؛ وإذا امتنع الخصم من الحضور وعزره القاضي بما يرى من ضرب أو صفع أو حبس أو تعبيس وجه على ما يراه‏.‏

فصل‏:‏‏[‏في كتاب القاضي إلى القاضي‏]‏

‏(‏يقبل كتاب القاضي إلى القاضي في كل حق لا يسقط بالشبهة‏)‏ للحاجة إلى ذلك، وهو العجز عن الجمع بين الخصوم والشهود، بخلاف ما يسقط بالشبهة كالحدود والقصاص لشبهة البدلية؛ والأصل في الجواز أن الكتاب يقوم مقام عبارة المكتوب عنه وخطابه، بدلالة أن كتاب الله تعالى إلى رسوله قام مقام خطابه له في الأمر والنهي وغيرهما؛ وكذلك كتب رسوله عليه الصلاة والسلام إلى ملك الفرس والروم وإلى نوابه في البلاد قامت مقام خطابه لهم، حتى وجب عليهم ما أمرهم به في كتبه كما وجب بخطابه؛ وإذا ثبت هذا فنقول‏:‏ كتاب القاضي إلى القاضي كخطابه له، ولو خاطبه بذلك وأعلمه صح، فكذلك كتابه، وهو أن يشهد الشهود عند القاضي أن لهذا على فلان الغائب كذا، فيكتب القاضي إلى القاضي الذي الخصم في بلده، وهو نقل الشهادة، ولهذا يحكم المكتوب إليه برأيه، ولو كانت الشهادة على حاضر حكم عليه وكتب بحكمه، وهو السجل‏.‏ ‏(‏و‏)‏ يكتب ‏(‏في النكاح والدين والغصب والأمانة المجحودة والمضاربة‏)‏ لأن ذلك دين يعرف بالوصف ‏(‏وفي النسب‏)‏ لأنه يعرف بذكر الأب والجد والقبيلة وغير ذلك ‏(‏وفي العقار‏)‏ لأنه يعرف بالحدود ‏(‏ولا يقبل في المنقولات‏)‏ لأنه يحتاج فيها إلى الشهادة للإشارة ‏(‏وعن محمد أنه يقبل في جميع المنقولات، وعليه الفتوى‏)‏ للحاجة إليه، ويمكن تعريفه بأوصافه ومقداره وغير ذلك‏.‏

وعن أبي يوسف أنه يقبل في العبد دون الأمة لكثرة إباقه دونها‏.‏ وعنه أنه يقبل فيهما؛ وصورته‏:‏ أن يكتب أنهم شهدوا عنده أن عبدا لفلان ويذكر اسمه وحليته وجنسه آبق منه وقد أخذه فلان‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يقبل إلا ببينة أنه كتاب فلان القاضي‏)‏ لأنه للإلزام، ولا إلزام بدون البينة، ولأن الخط يشبه الخط، والبينة تعينه، ويكتب اسم المدعي والمدعى عليه وينسبهما إلى الأب والجد والفخذ والقبيلة، أو إلى الصناعة، وإن لم يذكر الجد لم يجز إلا عند أبي يوسف، وإن كان في الفخذ مثله في النسب لم يجز، ولا بد من ذكر شيء يخصه ويعينه حتى يزول الالتباس ‏(‏ولا بد أن يكتب إلى معلوم‏)‏ بأن يقول من فلان ابن فلان ابن فلان إلى فلان ابن فلان ابن فلان ‏(‏فإن شاء قال بعد ذلك وإل كل من يصل إليه من قضاة المسلمين، وإلا فلا‏)‏ حتى يصير المكتوب إليه معروفا والباقي يكون تبعا ‏(‏ويقرأ الكتاب على الشهود ويعلمهم بما فيه‏)‏ ليعلموا بما يشدون ‏(‏ويختمه بحضرتهم ويحفظوا ما فيه‏)‏ حتى لو شهدوا أنه كتاب فلان القاضي ختمه ولم يشهدوا بما فيه لا تقبل، لأن الختم يشبه الختم، فمتى كان في يد المدعي يتوهم التبديل ‏(‏وتكون أسماؤهم داخل الكتاب بالأب والجد‏)‏ لنفي الالتباس ‏(‏وأبو يوسف لم يشترط شيئا من ذلك لما ابتلي بالقضاء‏)‏ تسهيلا على الناس ‏(‏واختاره السرخسي، وليس الخبر كالعيان‏)‏ قال أبو بكر الرازي‏:‏ ولو كتب من فلان ابن فلان ابن فلان إلى كل من يصل إليه من قضاة المسلمين وحكامهم ينبغي لكل من ورد الكتاب عليه من القضاة أن يقبله، لأن الخطاب جائز لقوم مجهولين، فإن رسول الله عليه الصلاة والسلام كتب إلى الآفاق ودعاهم إلى الإسلام ولم يعرفهم، وكذلك أمرنا ونهانا وكنا مجهولين عنده وصح خطابه ولزمنا والقضاة اليوم عليه؛ وينبغي أن يكون داخل الكتاب اسم القاضي الكاتب والمكتوب إليه، وعلى العنوان أيضا، فلو كان على العنوان وحده لم تقبل خلافا لأبي يوسف، لأن ما ليس تحت الختم متوهم التبديل‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فإذا وصل إلى القاضي المكتوب إليه نظر في ختمه، فإذا شهدوا أنه كتاب فلان القاضي سلمه إلينا في مجلس حكمه وقرأه علينا وختمه وفتحه وقرأه على الخصم وألزمه ما فيه‏)‏ لثبوت الحق عليه ‏(‏ولا يقبله إلا بحضرة الخصم‏)‏ لأنه للإلزام كالشهادة لا يسمعها إلا بحضرة الخصم، ولا يفتحه إلا بحضرته‏.‏ وقيل يجوز لأنه ثبت بحضوره فلا حاجة إليه حالة الفتح‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فإن مات الكاتب أو عزل أو خرج عن أهلية القضاء‏)‏ بأن جنّ أو أغمي عليه أو غير ذلك ‏(‏قبل وصول كتابه بطل‏)‏ لأن الكتاب كالخطاب حالة وصوله وهو بالموت خرج عن أهلية الخطاب، وبالعزل وغيره صار كغيره من الرعايا ‏(‏وإن مات المكتوب إليه بطل، إلا أن يكون قال بعد اسمه‏:‏ وإلى كل من يصل إليه من قضاة المسلمين‏)‏ لما بينا ‏(‏وإن مات الخصم نفذ على ورثته‏)‏ لقيامهم مقامه ‏(‏وإن لم يكن الخصم في بلد المكتوب إليه وطلب الطالب أن يسمع بينته ويكتب له كتابا إلى قاضي البلد الذي فيه خصمه كتب له‏)‏ للحاجة إليه ‏(‏ويكتب في كتابه نسخة الكتاب الأول أو معناه‏)‏ ليكتب بما ثبت عنده‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في تحكيم غير القاضي‏]‏

‏(‏حكّما رجلا ليحكم بينهما جاز‏)‏ لأن لهما ولاية على أنفسهما حتى كان كالقاضي في حقهما والمصالح في حق غيرهما، لأن غيرهما لم يرض بحكمه، وليس له عليه ولاية بخلاف القاضي‏.‏ وصورته‏:‏ إذا رد المشتري المبيع على البائع بعيب بالتحكيم لا يملك الرد على بائعه لما ذكرنا، وكذلك إذا حكما في قتل خطأ فحكمه بالدية على العاقلة لا يلزمهم لعدم ولايته عليهم ‏(‏ولا يجوز التحكيم فيما يسقط بالشبهة‏)‏ كالحدود والقصاص لأنه لا ولاية لهما على دمهما حتى لا يباح بإباحتهما‏.‏ وقيل يجوز في القصاص لأنهما يملكانه فيملكان تفويضه إلى غيرهما، والحدود حق الله تعالى فلا يجوز، ويجوز في تضمين السرقة دون القطع ‏(‏ويشترط أن يكون من أهل القضاء‏)‏ لأنه يلزمهما حكمه كالقاضي وتعتبر أهليته وقت الحكم والتحكيم جميعا ‏(‏وله أن يسمع البينة ويقضي بالنكول والإقرار‏)‏ لأنه حكم شرعي ‏(‏فإذا حكم لزمهما‏)‏ لولايته عليهما ‏(‏ولكل واحد منهما الرجوع قبل الحكم‏)‏ لأنه إنما ولي الحكم عليهما برضاهما، فإذا زال الرضا زالت الولاية كالقاضي مع الإمام ‏(‏وإن رفع حكمه إلى قاض أمضاه وإن وافق مذهبه‏)‏ لعدم الفائدة في نقضه ‏(‏وأبطله إن خالفه‏)‏ لأنه لا ولاية له عليه، فلا يلزمه إنفاذ حكمه، بخلاف القاضي لأن ولايته عامة ‏(‏ولا يجوز حكمه لمن لا تقبل شهادته له‏)‏ للتهمة، والله أعلم‏.‏

كتاب الحجر

وهو في اللغة‏:‏ مطلق المنع، ومنه حجر الكعبة لأنه منع من الدخول فيها، وسمي الحرام حجرا لأنه ممنوع من التصرف فيه‏.‏ وفي الشرع‏:‏ المنع عن أشياء مخصوصة بأوصاف مخصوصة على ما يأتيك إن شاء الله تعالى ‏(‏وأسبابه‏:‏ الصغر والجنون والرق‏)‏ لأن الصغير والمجنون لا يهتديان إلى المصالح ولا يعرفانها فناسب الحجر عليهما، والعبد تصرفه نافذ على مولاه فلا ينفذ إلا بإذنه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يجوز تصرف المجنون والصبي الذي لا يعقل أصلا‏)‏ لعدم الأهلية ‏(‏وتصرف الذي يعقل إن أجازه وليه أو كان أذن له يجوز‏)‏ لأن الظاهر أن الولي ما أجاز ذلك إلا لمصلحة راجحة نظرا له وإلا لما أجاز ‏(‏والعبد‏)‏ مع مولاه ‏(‏كالصبي الذي يعقل‏)‏ مع وليه، لأن الحق للمولى فإذا أجازه جاز

قال‏:‏ ‏(‏والصبي والمجنون لا يصح عقودهما وإقرارهما وطلاقهما وعتاقهما‏)‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏كل طلاق واقع إلا طلاق الصبي والمعتوه‏)‏ والعتق تمحض ضررا، ولأنه تبرع وليسا من أهله، وكذلك الإقرار لما فيه من الضرر، وكذلك سائر العقود لرجحان جانب الضرر نظرا إلى سفههما وقلة مبالاتهما وعدم قصدهما المصالح‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن أتلفا شيئا لزمهما‏)‏ إحياء لحق المتلف عليه، والضمان يجب بغير قصد كجناية النائم والحائط المائل، ولأن الإتلاف موجود حسا وهو سبب الضمان، فلا يرد إلا في الحدود والقصاص، فيجعل عدم القصد شبهة، وينقلب القتل في العمد إلى الدية على ما يعرف في بابه إن شاء الله تعالى‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وأقوال العبد نافذة في حق نفسه‏)‏ لأهليته ‏(‏فإن أقر بمال لزمه بعد عتقه‏)‏ لعجزه في الحال وصار كالمعسر ‏(‏وإن أقر بحد أو قصاص أو طلاق لزمه في الحال‏)‏ لأنه في حق الدم مبقي على أصل الحرية، ولهذا لا ينفذ إقرار المولى عليه بذلك ولا يستباح بإباحته؛ وأما الطلاق فلقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏لا يملك العبد إلا الطلاق‏)‏ ولأنه أهل ولا ضرر فيه على المولى فيقع‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وبلوغ الغلام بالاحتلام أو الإحبال، أو الإنزال، أو بلوغ ثماني عشرة سنة‏.‏ والجارية بالاحتلام، أو الحيض، أو الحبل، أو بلوغ سبعة عشرة سنة‏)‏ لأن حقيقة البلوغ بالاحتلام والإنزال‏.‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏خذ من كل حالم وحالمة دينار‏)‏ أي بالغ وبالغة، والحبل والإحبال لا يكون إلا به، والحيض علامة البلوغ أيضا، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏لا صلاة لحائض إلا بخمار‏)‏ أي بالغ؛ وأما البلوغ بالسن فالمذكور مذهب أبي حنيفة، وقالا‏:‏ بلوغهما بتمام خمس عشرة سنة لأنه المعتاد الغالب‏.‏ وعن ابن عمر رضي الله عنه قال‏:‏ عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم‏(‏وأنا ابن أربع عشرة سنة فردني، وعرضت عليه في السنة الثانية فأجازني‏)‏ وله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 152‏]‏‏.‏ قال ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ ثماني عشرة سنة، وهي أقل ما قيل فيه، فأخذنا به احتياطا، هذا أشد الصبي، فأما أشد الرجل فأربعون، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 15‏]‏ والأنثى أسرع بلوغا فنقصناها سنة‏.‏ فأما الحديث فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يجيز غير بالغ، فإنه روي‏)‏ أن رجلا عرض على النبي عليه الصلاة والسلام ابنه فرده، فقال‏:‏ يا رسول الله أترد ابني وتجيز رافعا وابني يصرع رافعا ‏؟‏ فأمرهما فاصطرعا فصرعه فأجازه‏)‏‏.‏ وأدنى مدة يصدق الغلام فيها على البلوغ اثنا عشرة سنة، والجارية تسع سنين، وقيل غير ذلك، وهذا هو المختار ‏(‏وإذا راهقا وقالا بلغنا صدقا‏)‏ لأن ذلك لا يعرف إلا من جهتهما، فيصدقان فيه إذا احتمل الصدق‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يحجر على الحر العاقل البالغ، وإن كان سفيها ينفق ماله فيما لا مصلحة له فيه‏)‏ وقالا‏:‏ نحجر عليه ويمنع من التصرف في ماله نظرا له، لأنا حجرنا على الصبي لاحتمال التبذير، فلأن نحجر على السفيه مع تيقنه كان أولى، ولهذا يمنع عنه ماله ولا فائدة فيه بدون الحجر، لأنه يمكنه التبذير بما يعقده من البياعات الظاهرة الخسران، وقد روي ‏(‏أنه عليه الصلاة والسلام باع على معاذ ماله وقضى ديونه‏)‏ وباع عمر رضي الله عنه مال أسيفع جهينة لسفهه‏.‏ ولأبي حنيفة ما روي أن حبان بن منقذ كان يغبن في البياعات فطلب أولياؤه من النبي عليه الصلاة والسلام الحجر عليه، فقال له‏:‏ ‏(‏إذا ابتعت فقل لا خلابة ولي الخيار ثلاثة أيام ولم يحجر عليه‏)‏ ولأنه مخاطب فلا يحجر عليه كالرشيد، ولأنه لا يدفع الضرر عنه بالحجر فإنه يقدر على إتلاف أمواله بتزويج الأربع وتطليقهن قبل الدخول وبعده في كل يوم ووقت، ولا معنى للحجر عليه لدفع الضرر عنه، ولا يندفع، ولأن الحجر عليه إهدار لآدميته وإلحاق له بالبهائم، وضرره بذلك أعظم من ضرره بالتبذير وإضاعة المال، وهذا مما يعزمه ذوو العقول والنفوس الأبية، ولا يجوز تحمل الضرر الأعلى لدفع الضرر الأدنى حتى لو كان في الحجر عليه دفع الضرر العام جاز كالمفتي الماجن، الطبيب الجاهل، والمكاري المفلس لعموم الضرر من الأول في الأديان، ومن الثاني في الأبدان، ومن الثالث في الأموال‏.‏

وأما حديث معاذ قلنا‏:‏ إنما باع ماله برضاه، لأن معاذا لم يكن سفيها، وكيف يظن به ذلك وقد اختاره صلى الله عليه وسلم للقضاء وفصل الحكم، وكذلك بيع عمر رضي الله عنه، وقيل كان بيع الدراهم بالدنانير وأنه جائز، والحجر عليه أبلغ عقوبة من منع المال فلا يقاس عليه، ومنع المال عنه مفيد لأن غالب السفه يكون في الهبات والنفقات فيما لا مصلحة فيها، وذلك إنما يكون باليد؛ وإذا حجر عليه القاضي ورفع إلى قاض آخر فأبطله جاز، لأن القضاء الأول مختلف فيه ولا قضاء في مختلف فيه، فلو أمضاه الثاني ثم رفع إلى ثالث لا ينقصه، لأن الثاني قضى في مختلف فيه فلا ينقض، ثم عند أبي يوسف‏:‏ إن كان مبذرا استحق الحجر فينفذ تصرفه ما لم يحجر عليه القاضي، فإذا صلح لا ينطلق إلا بإطلاقه‏.‏

وقال محمد‏:‏ تبذيره يحجره وإصلاحه يطلقه نظرا إلى الموجب وزواله‏.‏ ولأبي يوسف‏:‏ أنه فصل مجتهد فيه فلا بد من القضاء ليترجح به‏.‏ ‏(‏ثم‏)‏ عند أبي حنيفة ‏(‏إذا بلغ غير رشيد لا يسلم إليه ماله‏)‏ لعدم شرطه، وهو إيناس الرشد بالنص ‏(‏فإذا بلغ خمسا وعشرين سنة سلم إليه ماله، وإن لم يؤنس رشده، وإن تصرف فيه قبل ذلك نفذ‏)‏ وقالا‏:‏ لا يدفع إليه ماله حتى يؤنس رشده بالنص، ولا يجوز تصرفه فيه لأن علة المنع السفه، فيبقى ببقائه‏.‏ ولأبي حنيفة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 6‏]‏ وهذا إشارة إلى أنه لا يمنع عنه إذا كبر، وقدره أبو حنيفة بهذه المدة، لأن الغالب إيناس الرشد فيها، ألا ترى أنه يصلح أن يكون جدا‏.‏ وعن عمر رضي الله عنه أنه قال‏:‏ ينتهي لب الرجل إلى خمس وعشرين سنة، وفسر الأشد بذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى يبلغ أشده‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 152‏]‏ وتصرفه قبل ذلك نافذ، لأن المنع عنه للتأديب لا للحجر، فلهذا نفذ تصرفه فيه‏.‏ ثم نفرّع المسائل على قولهما فنقول‏:‏ إذا حجر القاضي عليه صار في حكم الصبي، إلا في أشياء فإنها تصح منه كالعاقل، وهي‏:‏ النكاح، والطلاق، والعتاق، والاستيلاد، والتدبير، والوصية مثل وصايا الناس، والإقرار بالحدود والقصاص، لأنه من أهل التصرفات لكونه مخاطبا، أما النكاح فهو من الحوائج الأصلية، ويلزم بمثل مهر المثل لأنه لا غبن فيه، ويبطل ما زاد عليه لأنه تصرف في المال وصار كالمريض المديون، وإن كانت المرأة سفيهة فزوجت نفسها من كفء بأقل من مهر المثل جاز، فإن كان أقل بما لا يتغابن فيه الناس ولم يدخل بها يقال للزوج‏:‏ إما أن تتم لها أو تفارقها، لأن رضاها بالنقصان لم يصح، ويخير الزوج لأنه ما رضي بالزيادة، وإن دخل بها لم يخير ووجب مهر المثل فلا فائدة في التخيير‏.‏

وأما الطلاق فلقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏كل طلاق واقع إلا طلاق الصبي والمعتوه‏)‏ ولأن كل من ملك النكاح وقع طلاقه والعتق لوجود الأهلية، ويسعى العبد في قيمته لمكان الحجر عن التبرعات بالمال، إلا أن العتق لا يقبل الفسخ فقلنا بنفاذه، ووجوب السعاية نظرا للجانبين‏.‏ وعن محمد أنه لا يسعى‏.‏ وأما التدبير فلأنه يوجب حق العتق، أو هو عتق من وجه، فاعتبر بحقيقة العتق، إلا أنه لا يسعى إلا بعد الموت، فإذا مات ولم يؤنس رشده سعى في قيمته مدبرا كأنه أعتقه بعد التدبير‏.‏

وأما الاستيلاد فإن وطئها فولدت وادعاه ثبت نسبه لحاجته إلى بقاء النسل فلا تسعى إذا مات‏.‏ وكذلك إن أقر أنها أم ولده ومعها ولد، وإن لم يكن معها ولد سعت في قيمتها بعد الموت لأنه متهم في ذلك فصار كالعتق‏.‏

وأما الوصية فالقياس أن لا تصح لأنها تبرع وهبة، لكنا استحسنا ذلك إذا كانت مثل وصايا الناس، لأنها قربة يتقرب بها إلى الله تعالى وهو محتاج إليها سيما في هذه الحالة‏.‏ وأما الإقرار بالحدود والقصاص، فلأن الحجر عن التصرف في المال لا غير وهو عاقل بالغ فيصح إقراره فيما لا حجر عليه فيه، ويلزمه حقوق الله تعالى من الزكاة والكفارات والحج لأنه مخاطب، ولا حجر عن حقوق الله تعالى، فتخرج عنه الزكاة بمحضر من القاضي أو أمينه احترازا من أن يصرفها في غير مصرفها‏.‏

وأما الكفارات فما للصوم فيه مدخل فيكفره بالصوم لا غير كابن السبيل المنقطع عن ماله؛ ولو أعتق عن ظهاره نفذ العتق وسعى في قيمته، ولا يجزيه عن الظهار لأنه عتق ببدل كالمريض المديون إذا أعتق عن ظهاره ثم مات يسعى العبد للغرماء ولا يجزيه، وكذا سائر الكفارات؛ ولو كفر بالصوم ثم صلح قبل تمامه فعليه أن يكفر لزوال العجز‏.‏ وأما الحج فإن القاضي يسلم النفقة إلى ثقة في الحاج ينفقها عليه، ولا يمنع من عمرة واحدة لوجوبها عند بعض العلماء، ولا من القران لأنه أفضل وأثوب، ولأنه لا يمنع من كل واحدة منهما على الانفراد، فكذا على الاجتماع وبل أولى لأنه أفضل، وله أن يسوق البدنة لمكان الاختلاف، فإن عمر رضي الله عنه فسر الهدي بالبدنة، ويلزمه حقوق العباد إذا تحققت أسبابها عملا بالسبب، وكذلك النفقة على زوجته وولده وذوي أرحامه، لأن السفه لا يبطل حقوق العباد، ولأن نفقة الزوجة والأولاد من الحوائج الأصلية‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يحجر على الفاسق‏)‏ أما عنده فظاهر، وأما عندهما إن كان مصلحا لماله، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن آنستم منهم رشدا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 6‏]‏ الآية، وقد أونس منه نوع رشد وهو إصلاح المال فيتناوله النص، ولأن الحجر للفساد في المال لا في الدين؛ ألا ترى أنه لا يحجر على الذمي والكفر أعظم من الفسق‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا‏)‏ يحجر ‏(‏على المديون‏)‏ لما تقدم في الحجر على السفيه ‏(‏فإن طلب غرماؤه حبسه، حبسه حتى يبيع ويوفى الدين‏)‏ على الوجه الذي بيناه في أدب القاضي ‏(‏فإن كان ماله دراهم أو دنانير والدين مثله قضاه القاضي بغير أمره‏)‏ لأن رب الدين له أخذه بغير أمره، فالقاضي يعينه عليه‏.‏ ‏(‏وإن كان أحدهما دراهم والآخر دنانير أو بالعكس باعه القاضي في الدين‏)‏ والقياس أنه لا يبيعه كالعروض لأنه نوع حجر‏.‏ وجه الاستحسان أنهما كجنس واحد نظرا إلى الثمنية والمالية وعدم التعيين، بخلاف العروض لأنها مباينة للديون من كل وجه، والغرض يتعلق بعين العروض دون الأثمان فافترقا ‏(‏ولا يبيع العروض ولا العقار‏)‏ لأنه حجر عليه وهو تجارة لا عن تراض‏.‏ ‏(‏وقالا‏:‏ يبيع وعليه الفتوى‏)‏ وقال أبو يوسف ومحمد‏:‏ إذا طلب الغرماء المفلس الحجر عليه حجر القاضي عليه ومنعه من التصرفات والإقرار حتى لا يضر بالغرماء نظرا لهم، لأنه ربما ألجأ ماله فيفوت حقهم؛ ولا يمنع من البيع بمثل الثمن لأنه لا يبطل حق الغرماء، ويبيع ماله إن امتنع المديون من بيعه وقسمه بين الغرماء بالحصص، لأن إيفاء الدين مستحق عليه، فيستحق عليه البيع لإيفائه، فإذا امتنع باع القاضي عليه نيابة كالجب والعنة، ولأبي حنيفة ما مر؛ وجوابهما أن التلجئة متوهمة فلا يبتني عليها حكم متيقن وقضاء الدين مستحق عليه، لكن لا نسلم تعيين البيع له، بخلاف الجب والعنة، وإنما يحبس ليوفي دينه بأي طريق شاء، ثم التفريع على أصلهما أنه يباع في الدين النقود، ثم العروض، ثم العقار لما فيه من المسارعة إلى قضاء الدين ومراعاة المديون، ويترك له ثياب بدنه دست أو دستان، وإن أقر في حال الحجر بمال لزمه بعد قضاء الديون، لأن هذا المال تعلق به حق الأولين، ولأنه لو صح في الحال لما كان في الحجر فائدة حتى لو استفاد مالا بعد الحجر نفذ إقراره فيه لأنه لم يتعلق به حقهم، ولو استهلك مالا لزمه في الحال لأنه مشاهد لا راد له، وينفق من ماله عليه وعلى زوجته وأولاده الصغار وذوي أرحامه، لأنها من الحوائج الأصلية وأنها مقدمة على حقهم، ولو تزوج امرأة فهي في مهر مثلها أسوة بالغرماء‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن لم يظهر للمفلس مال، فالحكم ما مر في أدب القاضي‏)‏ إلى أن قال خلى سبيله‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يحول بينه وبين غرمائه بعد خروجه من الحبس يلازمونه ولا يمنعونه من التصرف والسفر، ويأخذون فضل كسبه يقتسمونه بينهم بالحصص‏)‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏'‏ لصاحب الحق اليد واللسان‏)‏ أي اليد بالملازمة، واللسان بالاقتضاء‏.‏ وقال أبو يوسف ومحمد‏:‏ إذا فلسه القاضي حال بينه وبين الغرماء، إلا أن يقيموا البينة أنه قد حصل له مال، وهذا بناء على صحة القضاء بالإفلاس فيصح عندهما فيستحق الإنظار، وعند أبي حنيفة لا يصح لأن الإفلاس لا يتحقق، فإن المال غاد ورائح، ولأن الشهادة شهادة على العدم حقيقة فلا تقبل، ولأن الشهود لا يتحققون باطن أحوال الناس وأمورهم، فربما له مال لا يطّلع عليه أحد قد أخفاه من الظلمة واللصوص وهو يظهر الفقر والعسرة، فإذا لازموه فربما أضجروه فأعطاهم، والملازمة أن يدور معه حيث دار، ويجلس على بابه إذا دخل بيته، وإن كان المديون امرأة لا يلازمها حذارا من الفتنة ويبعث امرأة أمينة تلازمها، وبينة اليسار مقدمة على بينة الإعسار لأنها مثبتة إذ الأصل الإعسار‏.‏

كتاب المأذون

الإذن في اللغة‏:‏ الإعلام، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وأذّن في الناس الحج‏}‏ الحج‏:‏ 27‏]‏ أي أعلم، ومنه الأذان، لأنه إعلام بوقت الصلاة، وفي الشرع‏:‏ فك‏:‏ الحجر وإطلاق التصرف لمن كان ممنوعا عنه شرعا، فكأنه أعلمه بفك الحجر عنه وإطلاق تصرفه، وأعلم التجار بذلك ليعاملوه، وفائدته اهتداء الصبي والعبد إلى إصدار التصرفات واكتساب الأموال واستجلاب الأرباح، وقد ندب الله تعالى إلى ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وابتلوا اليتامى‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 6‏]‏ أي اختبروهم بشيء تدفعونه إليهم ليتصرفوا فيه فتنظروا في تصرفهم، والدليل على جوازه ما روي ‏(‏ أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يجيب دعوة المملوك‏)‏ ولا يجوز إجابة دعوة المحجور عليه، فدل على جواز الإذن وعليه الإجماع، ثم العبد بالإذن يصير كالأحرار في التصرفات لأنه كان مالكا للتصرفات بأهليته بأصل الفطرة باعتبار عقله ونطقه الذي هو ملاك التكليف، والحجر عليه إنما كان لحق المولى لاحتمال لحوق الضرر به بتعلق لدين برقبته أو بكسبه، وكل ذلك ملك المولى، فإذا أذن له فقد رضي بتصرفه فيتصرف باعتبار مالكيته الأصلية، ولهذا قلنا إنه لا يتوقف، لأن الإسقاطات لا تتوقف حتى لو أذن له يوما أو شهرا كان مأذونا مطلقا ما لم ينهه، وكذلك إذن القاضي والوصي لعبد اليتيم، وكذلك للصبي الذي يعقل، فإن الحجر عليه إنما كان خوفا من سوء تصرفه وعدم هدايته للأصلح، فإذنهما لهما دليل صلاحية التصرف فجاز تصرفه‏.‏

‏(‏ويثبت بالصريح وبالدلالة كما لو رآه يبيع ويشتري فسكت، وسواء كان البيع للمولى أو لغيره بأمره أو بغير أمره صحيحا أو فاسدا‏)‏ لأن سكوته عند هذه التصرفات دليل رضاه، كسكوت الشفيع عند تصرف المشتري‏.‏

وقال زفر‏:‏ لا يثبت بالدلالة لأن سكوته محتمل، وصار كالوكيل‏.‏ ولنا أن الناس إذا رأوه يتصرف هذه التصرفات والمولى ساكت يعتقدون رضاه بذلك، وإلا لمنعه فيعاملونه معاملة المأذون، فلو لم يعتبر سكوته رضى يفضى ذلك إلى الإضرار بهم، فوجب أن يكون سكوته رضى دفعا للضرر عنهم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويصير مأذونا بالإذن العام والخاص‏)‏ فالعام أن يقول لعبده‏:‏ أذنت لك في التجارة، وأذنت لك في البيع والشراء، ولا يقيده بشيء، لأن ذلك عام فيتناول جميع الأنواع، وكذلك إذا قال‏:‏ أدّ إليّ الغلة، أو إن أديت إليّ ألفا فأنت حر لأنه لا قدرة على ذلك إلا بالكسب ولا كسب إلا بالتجارة ويجوز تصرفه بالغبن وقالا‏:‏ لا يجوز إذا كان غبنا فاحشا لأن الزيادة بمنزلة التبرع‏.‏ وله أنه يتصرف بأهليته كالحر وهذه تجارة فتجوز، والصبي المأذون على هذا الخلاف، والخاص أن يأذن له في التجارة في نوع خاص بأن يقول له أذنت لك في البر أو في الصرف أو في الخياطة أو في الصياغة، فإنه يصير مأذونا في جميع التجارات والحرف، وكذلك إذا نهاه عن التجارة في نوع خاص، وكذلك لو قال‏:‏ أذنت لك في التجارة في البر دون البحر‏.‏ وقال زفر‏:‏ يختص بما قيده به لأنه يستفيد التصرف بإذنه كالوكيل‏.‏ ولنا ما بينا أنه فك الحجر ورفع السبب الذي كان لأجله محجورا فبعده يتصرف لنفسه بأهليته كما بعد الكتابة، وفك الحجر يوجد بالإذن في نوع واحد، لأن الضرر الذي يلحق بالمولى لا يتفاوت بين نوع ونوع فيلغو التقييد ويبقى قوله أتّجر، وليس كالوكيل لأنه يصح بقوله أذنت لك في التجارة، ولا يصح التوكيل به لأنه مجهول‏.‏

أما رفع الحجر إسقاطه، والجهالة لا تبطله ولا يرجع على العبد بالعهدة في تصرفاته ويرجع على الوكيل، ولو اقتصر على قوله أذنت لك صح، وفي التوكيل لا يصح، والصبي يتصرف لنفسه في ماله فلا يكون غائبا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولو أذن له بشراء طعام الأكل وثياب الكسوة لا يصير مأذونا‏)‏ لأنه استخدام وليس بتجارة، لأن التجارة ما يطلب منه الربح، ولأنه لو اعتبرناه إذنا أدى إلى سد باب الاستخدام، وفيه من الفساد ما لا يخفى‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وللمأذون أن يبيع ويشتري‏)‏ لأنه أصل التجارة ‏(‏ويوكل‏)‏ لأنه قد لا يمكنه من المباشرة بنفسه في بعض الأحوال ‏(‏ويبضع ويضارب‏)‏ لأن ذلك من التجارة ‏(‏ويعير‏)‏ لأن ذلك من أفعال التجار ‏(‏ويرهن ويسترهن‏)‏ لأنه وفاء واستيفاء، وهما من توابع البيع ‏(‏ويؤجر ويستأجر ويسلم ويقبل السلم‏)‏ لأن كل ذلك من صنيع التجار ‏(‏ويزارع ويشتري طعاما ويزرعه‏)‏ لأنه تجارة يقصد بها الربح ‏(‏ويشارك عنانا‏)‏ لأنها من أفعال التجار، وله أن يؤاجر نفسه لأنه يحصل به الربح والاكتساب وهو المقصود ‏(‏ولو أقر بدين أو غصب أو وديعة جاز‏)‏ لأنه لو لم يصح لامتنع الناس من معاملته ولأن الغصب مبادلة ‏(‏ولا يتزوج‏)‏ لأنه ليس من التجارة، فلو تزوج أخذ بالمهر بعد الحرية ‏(‏ولا يزوج مماليكه‏)‏‏.‏

وقال أبو يوسف‏:‏ يزوج الأمة لأنه نوع تجارة، وهو وجوب نفقتها على غيره، بخلاف العبد لأنه يوجب عليه نفقة زوجته‏.‏ ولهما أنه ليس تجارة ولهذا لا يملكه في العبد، ونفقتها ليست بتجارة، ولأن الزواج عيب في الأمة ‏(‏ولا يكاتب‏)‏ لأنه إطلاق وليس بتجارة ‏(‏ولا يعتق‏)‏ بمال ولا بغير مال ‏(‏ولا يقرض ولا يهب‏)‏ بعوض ولا بغير عوض ‏(‏ولا يتصدق‏)‏ لأن ذلك تبرع ابتداء، أو ابتداء وانتهاء وليس من التجارات ‏(‏ولا يتكفل‏)‏ بنفس ولا بمال لأنه تبرع‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويهدي القليل من الطعام، ويضيف معامليه‏)‏ لأنه من صنيع التجار، وفيه استمالة قلوب المعاملين، وقد صح أنه عليه الصلاة والسلام قبل هدية سلمان الفارسي وكان عبدا‏.‏ وقال محمد‏:‏ يتصدق بالرغيف ونحوه، ولم يقدر محمد الضيافة اليسيرة، وقيل ذلك على قدر مال التجارة، إن كانت نحو عشرة آلاف فالضيافة بعشرة، وإن كانت تجارته عشرة دراهم فدانق كثير، وله أن يحط من الثمن بعيب كعادة التجار ولعله أصلح نم الرضا بالعيب، ولا يحط بغير عيب لأنه تبرع‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويأذن لرقيقه في التجارة‏)‏ لأنه نوع تجارة، والأصل أن كل من له ولاية التجارة يصح إذنه للعبد فيها كالمكاتب والمأذون والمضارب والأب والجد والقاضي وشريكي المفاوضة والعنان والوصي، ولا يجوز ذلك للأم والأخ والعم لأنه ليس لهم ولاية التجارة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وما يلزمه من الديون بسبب الإذن متعلق برقبته يباع فيه إلا أن يفديه المولى‏)‏ لأن المولى رضي بذلك، فإنه لو لم يتعلق برقبته كان تصرفه نفعا محضا فلا حاجة إلى الإذن، وإنما شرط إذن المولى ليصير راضيا بهذا الضرر، ولأن سبب هذا الدين التجارة وهي بإذنه ولأن تعلق الدين برقبته مما يدعو إلى معاملته وأنه يصلح مقصودا للمولى فينعدم الضرر في حقه إلا أنه يبدأ بكسبه لأنه أهون ‏(‏فإن لم يف بالديون، فإن فداه المولى بديون الغرماء انقطع حقهم عنه، وإلا يباع ويقسم ثمنه بين الغرماء بالحصص‏)‏ لتعلق حقهم به كتعلقها بالتركة ‏(‏فإن بقي شيء طولب به بعد الحرية‏)‏ لأن الدين ثبت عليه ولم تف به الرقبة، فيبقى عليه إلى وقت القدرة، وهو ما بعد الحرية‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن حجر المولى عليه لم ينحجر حتى يعلم أهل سوقة أو أكثرهم بذلك‏)‏ لأنهم إذا لم يعلموا يبايعونه بناء على ما عرفوه من الإذن، فلو انحجر يتضرر بذلك، لأنهم إذا لم يتعلق حقهم بكسبه وبرقبته يتأخر إلى ما بعد الحرية، وقد لا يعتق فيتضررون إما بالتأخير أو بالعدم، ولو حجر عليه في السوق عند رجل أو رجلين لا ينحجر، ولو حجر عليه في البيت عند أهل سوقة أو أكثرهم انحجر، والمعتبر اشتهار الحجر عندهم إذا كان الإذن مشهورا، أما إذا لم يعلم بالإذن غير العبد ثم علم بالحجر انحجر، ولا يزال مأذونا حتى يعلم بالحجر كالوكيل لأنه يتضرر لو انحجر بدون علمه، لأنه يلزمه قضاء الديون بعد الحرية وأنه ضرر به‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن ولدت المأذونة من مولاها فهو حجر‏)‏ خلافا لزفر‏.‏ له أن ذلك لا يمنع الإذن ابتداء فكذا بقاء‏.‏ ولنا أنه يحصنها عادة فيمنعها من الخروج والبروز والتصرفات فكان حجرا دلالة، بخلاف الابتداء فإنه صريح في الإذن فلا تعارضه الدلالة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والإباق حجر‏)‏ لأنه لا يقدر على قضاء دينه من كسبه وهو ما أذن له إلا بهذا الشرط مقصودا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولو مات المولى أو جن، أو لحق بدار الحرب مرتدا صار محجورا‏)‏ لأنه زال ملكه عنه بالموت واللحاق، ألا ترى أنه ينتقل إلى ملك ورثته وهو عقد غير لازم فيزول بزوال الملك، وبالجنون زالت الأهلية فيبطل الإذن اعتبارا بالابتداء، لأن ما يلزم من التصرفات يعتبر لدوامه الأهلية كما يعتبر لابتدائه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويصح إقراره بما في يده بعد الحجر‏)‏ سواء أقر أنه غصب أو أمانة أو أقر بدين، وقالا‏:‏ لا يصح لأن المصحح كان الإذن وقد زال، ولهذا لا يصح في حق الرقبة وصار كما إذا باعه من آخر، وله أن المصحح اليد وهي باقية، ولهذا لا يصح فيما أخذه المولى، وبطلانها لعدم الحاجة، وهي باقية بدليل إقراره، بخلاف الرقة لأنها ليست في يده وملك المولى ثابت فيها فلا يبطل من غير رضاه، وبخلاف البيع لأن الملك قد تبدل فلم يبق حكم الملك الأول‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإذا استغرقت الديون ماله ورقبته لم يملك المولى شيئا من ماله‏)‏ وهو كالأجنبي لو أعتق عبيده لا يعتقون، ولو قتل عبده فعليه قيمته على السنين، وقالا‏:‏ يملكه المولى ويعتقون بإعتاقه وعليه قيمة المقتول في الحال‏.‏ لهما أنه ملك رقبته حتى جاز عتقه فيملك كسبه، ولذا يحل له وطء المأذونة، وتعلق حق الغرماء يمنع المولى عن التصرف فيه ونقضه بعد وقوعه لا في إبطاله ملكه‏.‏ وله أن الملك واقع للمأذون لأن سبب الملك الاكتساب، فيكون أولى به من غيره بالنص، وإنما ينتقل إلى المولى إذا فصل عن حاجته، والحاجة قائمة في الدين المحيط، والمأذون يملكه لكونه آدميا مكلفا لكن ملكا منتقلا لا مستقرا كملك المقتول الدية والجنين الغرة، ثم تنتقل إلى ورثته حتى يكون موروثا عنه، بخلاف ما إذا لم يكن مستغرقا، لأن الإنسان قل ما يخلو عن قليل الدين سيما التجار، فلو اعتبرنا القليل مانعا أدى إلى سد باب التصرفات على المولى فيمتنع عن الإذن‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن أعتقه نفذ‏)‏ لبقاء ملكه فيه ‏(‏وضمن قيمته للغرماء، وما بقي فعلى العبد‏)‏ لأن حقهم تعلق برقبته وقد فوتها بالعتق فيغرم له قيمتها، وما فضل أخذوه من المعتق لأنه حر مديون، وإن شاء ضمنوا المعتق جميع ديونهم، لأن حقه تعلق برقبته وقد حصلت له فيضمنها وإن كان الدين أقل من قيمته ضمن الدين لأن حقهم فيه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويجوز أن يبيعه المولى بمثل الثمن أو أقل‏)‏ لأنه أجنبي عن كسبه إذا كان مديونا كما بينا ولا تهمة فيه، وفيه منفعة للعبد بدخول المبيع في ملكه، فإن باعه وسلمه ولم يقبض الثمن سقط إن كان دينا، لأن المولى لا يثبت له دين على عبده، وإن كان الثمن عرضا لا يسقط لجواز بقاء حقه في العين‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويجوز أن يبيع من المولى بمثل الثمن أو أكثر‏)‏ لأنه كالأجنبي ولا تهمة حتى لو باعه بأقل من القيمة لا يجوز للتهمة، ولو باع المولى العبد فقبضه المشتري وعيبه‏.‏ فالغرماء إن شاؤوا ضمنوا البائع القيمة لأنه أتلف حقهم بالبيع والتسليم، وإن شاؤوا ضمنوا المشتري بالشراء والتعييب، وإن شاؤوا أجازوا البيع وأخذوا الثمن لأن الحق لهم كالمرتهن، فإن ضمنوا البائع ثم رد عليه بعيب رجع عليهم بما ضمن وعاد حقهم إلى العبد لزوال المانع‏.‏

كتاب الإكراه

وهو الإلزام والإجبار على ما يكره الإنسان طبعا أو شرعا، فيقدم عليه ما عدم الرضا ليدفع عنه ما هو أضر منه؛ ثم قيل هو معتبر بالهزل المنافي للرضا، فما لا يؤثر فيه الهزل لا يؤثر فيه الإكراه كالطلاق وأخواته؛ وقيل هو معتبر بخيار الشرط الخالي عن الرضا بموجب العقد، فما لا يؤثر فيه الشرط لا يؤثر فيه الإكراه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويعتبر فيه قدرة المكره على إيقاع ما هدده به‏)‏ لأنه إذا لم يكن قادرا عليه لا يتحقق الخوف فلا يتحقق الإكراه، وما روي عن أبي حنيفة أن الإكراه لا يتحقق إلا من سلطان، فاختلاف عصر وزمان ‏(‏و‏)‏ لا بد من ‏(‏خوف المكره عاجلا‏)‏ لأنه لو لم يخف فعله يكون راضيا فلا يكون مكرها؛ لأن الإكراه ما يفعله بغيره فينتفي به رضاه أو يفسد عليه اختياره مع بقاء أصل القصد، لأنه طلب منه أحد الأمرين فاختار أحدهما، فإذا فعل برضاه لا يكون مكرها ‏(‏و‏)‏ لا بد من ‏(‏امتناعه من الفعل قبل الإكراه‏)‏ لأن الإكراه لا يتحقق إلا على فعل يمتنع عنه المكره‏.‏ أما إذا كان بفعله فلا إكراه ويكون الامتناع ‏(‏لحقه‏)‏ كبيع ماله والشراء، وإعتاق عبده ونحو ذلك ‏(‏أو لحقّ آدمي‏)‏ كإتلاف مال الغير ونحوه ‏(‏أو لحقّ الشرع‏)‏ كالقتل والزنا وشرب الخمر ونحوها، لأن الامتناع لا يكون إلا لأحد هذه الأشياء ‏(‏و‏)‏ لا بد ‏(‏أن يكون المكره به نفسا أو عضوا‏)‏ كالقتل والقطع ‏(‏أو موجبا عما ينعدم به الرضا‏)‏ كالحبس والضرب؛ وأحكامه تختلف باختلاف هذه الأشياء، فتارة يلزمه الإقدام على ما أكره عليه، وتارة يباح له، وتارة يرخص، وتارة يحرم على ما نبينه إن شاء الله تعالى‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فلو أكره على بيع أو شراء أو إجارة أو إقرار بقتل أو ضرب شديد أو حبس ففعل ثم زال الإكراه، فإن شاء أمضاه، وإن شاء فسخه‏)‏ لأن الملك يثبت بالعقد لصدوره من أهله في محله، إلا أنه فقد شرط الحل وهو التراضي فصار كغيره من الشروط المفسدة، حتى لو تصرف فيه تصرفا لا يقبل النقض كالعتق ونحوه ينفذ وتلزمه القيمة، وإن أجازه جاز لوجود التراضي بخلاف البيع الفاسد، لأن الفساد لحق الشرع يجوز بإجازتهما، ولا ينقطع حق الاسترداد ههنا وإن تداولته الأيدي، بخلاف البيع الفاسد، لأن الفساد لحق الشرع، وقد تعلق بالبيع الثاني حق العبد، وهنا أيضا الرد حق العبد، وهما سواء؛ ولو أكره بضرب سوط، أو حبس يوم، أو قيد يوم لا يكون إكراها، لأنه لا يبالي به عادة، إلا إذا كان ذا منصب يستضر به، فيكون إكراها في حقه لزوال الرضى‏.‏ وأما الإقرار فليس بسبب، لكن جعل حجة لرجحان جانب الصدق، وعند الإكراه يترجح جانب الكذب لدفع الضرر‏.‏

‏(‏وإن قبض العوض طوعا فهو إجازة‏)‏ لأنه دليل الرضا كالبيع الموقوف ‏(‏وإن قبضه مكرها فليس بإجازة، ويرده إن كان قائما، فإن هلك المبيع في يد المشتري وهو غير مكره فعليه قيمته‏)‏ لأنه بيع فاسد والمقبوض فيه مضمون بالقيمة ‏(‏وللمكره أن يضمن المكره‏)‏ لأنه كالآلة له فكأنه هو الذي دفعه إلى المشتري فصار كغاصب الغاصب، فإن ضمن المكره رجع على المشتري لأنه صار كالبائع، وإن ضمن المشتري نفذ كل بيع حصل بعد الإكراه لأنه ملكه بالضمان، والمضمونات تملك بأداء الضمان مستندا إلى وقت القبض عندنا على ما عرف‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن أكره على طلاق أو عتاق ففعل وقع‏)‏ لما بينا أنه معتبر بالهزل لأنهما يجريان مجرى واحدا في عدم الرضا، وقد بينا أن الإكراه لا يسلب القصد، فقد قصد وقوع الطلاق والعتاق على منكوحته وعبده فيقع ‏(‏ويرجع على المكره بقيمة العبد والولاء للمعتق‏)‏ لما بينا أنه آلة له فانضاف إليه فله تضمينه ‏(‏وفي الطلاق بنصف المهر إن كان قبل الدخول وبما يلزمه من المتعة عند عدم التسمية‏)‏ لأنه أكد ما كان على شرف السقوط بأن تجيء الفرقة من قبلها، فكان إتلافا لهذا القدر من المال فيضاف إليه، بخلاف ما بعد الدخول، لأن المهر تأكيد بالدخول، وهكذا النذر واليمين والظهار والرجعة والإيلاء والفيء باللسان، لأن هذه الأشياء لا تقبل الفسخ وتصح مع الهزل، والخلع يمين أو طلاق وعليها البدل إن كانت طائعة، ولا شيء عليه فيما وجب بالنذر واليمين، لأنه لا مطالب له في الدنيا فلا يطلبه فيها، والنكاح كالطلاق، فإن كان بمهر المثل أو أقل لم يرجع بشيء لأنه وصل إليه عوض ما خرج من ملكه، وإن كان أكثر من مهر المثل بطلت الزيادة، لأن الرضا شرط للزوم الزيادة وقد فاتت‏.‏ وإن أكرهت المرأة، فإن كان الزوج كفؤا بمهر المثل جاز ولا ترجع بشيء لما بينا، وإن كان أقل فالزوج إما أن يتم لها مثر المثل أو يفارقها، ولا شيء عليه إن لم يدخل بها، لأن الفرقة جاءت من قبلها حيث لم ترض بالمسمى، وإن دخل بها وهي مكرهة فلها مصر مثلها حيث لم ترض بالمسمى، وإن كانت طائعة فهو رضى بالمسمى، ويبقى الاعتراض للأولياء عند أبي حنيفة على ما عرف‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فإن أكره على شرب الخمر أو أكل الميتة أو على الكفر أو إتلاف مال مسلم أو ذمي بالحبس أو الضرب فليس بمكره‏)‏ والأصل في هذا أن شرب الخمر وأكل الميتة ومال الغير مباح في حالة المخمصة، وهو خوف فوت النفس، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 173‏]‏ فإذا أكره على ذلك بالضرب والحبس لا يسعه ذلك لأنه ليس في معناه، وإذا لم يبح بهذا النوع من الإكراه لا يباح الكفر لأنه أعظم جريمة وأشد حرمة وأقبح من هذه الأشياء، لأن حرمتها بالسمع وحرمة الكفر به وبالعقل ‏(‏وإن أكرهه بإتلاف نفسه وسعه أن يفعل‏)‏ أما شرب الخمر وأكل الخنزير والميتة فلما تلونا من النص‏.‏

ووجهه أن حالة الضرورة صارت مستثناة من الحرمة، فكانت الميتة والخمر حالة الضرورة كالخبز والماء في غير حالة الضرورة، فلو لم يفعل حتى قتل وهو يعلم بالإباحة أثم كما في حالة المخمصة، ولأن الحرمة لما زالت بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا إثم عليه ‏(‏صار كالممتنع عن الطعام والشراب حتى مات فيأثم‏.‏ وأما إتلاف مال الغير فكذلك يباح حالة المخمصة فزال الإثم، والضمان على من أكرهه لما مر، وكذلك لو توعدوه بضرب يخاف منه على نفسه أو بقطع عضو منه ولو أنملة، لأن حرمة الأعضاء كحرمة النفس، ألا ترى أنه كما لا يباح له القتل حالة المخمصة لا يباح له قطع العضو، ولو خوفوه بالجوع لا يفعل حتى يجوع جوعا يخاف من التلف فيصير كالمضطر‏.‏ وأما الكفر فإنه يسعه أن يأتي به وقلبه مطمئن بالإيمان، لما روي أن عمار بن ياسر رضي الله عنه أكرهه المشركون على الكفر، فأعطاهم بلسانه ما أرادوا، ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي، فقال له‏:‏ ‏(‏ما وراءك‏)‏ ‏؟‏ فقال‏:‏ شر، نلت منك، فقال‏:‏ ‏(‏كيف وجدت قلبك‏)‏ ‏؟‏ قال‏:‏ مطمئنا بالإيمان، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه ويقول‏:‏ ‏(‏ما لك، إن عادوا فعد‏)‏، ونزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 106‏]‏ وفيه دليل الكتاب؛ والسنة وهو قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن عادوا فعد‏)‏ والأثر فعل عمار رضي الله عنه‏.‏ ‏(‏وإن صبر حتى قتل كان مأجورا‏)‏ وهو العزيمة‏)‏ فإن خبيب بن عدي الأنصاري رضي الله عنه صبر حتى قتل، وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ سيد الشهداء، وقال‏:‏ هو رفيقي في الجنة‏)‏ ولأنه بذل مهجته وجاد بروحه تعظيما لله تعالى وإعلاء لكلمته لئلا يأتي بكلمة الكفر، فكان شهيدا كمن بارز بين الصفين مع علمه أنه يقتل فإنه يكون شهيدا، ومن هذا القبيل سب النبي صلى الله عليه وسلم، وترك الصلوات الخمس، وكل ما ثبتت فرضيته بالكتاب؛ ولو أكره الذمي على الإسلام صح إسلامه، كما لو قوتل الحربي على الإسلام فأسلم، فإنه يصح بالإجماع‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 83‏]‏ سمي المكره على الإسلام مسلما، فإن رجع الذمي لا يقتل لكنه يحبس حتى يسلم لأنه وقع الشك في اعتقاده، فاحتمل أنه صحيح فيقتل بالردة، ويحتمل أنه غير معتقد فيكون ذميا فلا يقبل، إلا أنا رجحنا جانب الوجود حالة الإسلام تصحيحا لإسلامه لترجيح الإسلام على الكفر‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولو أكره بالقتل على القتل لم يفعل ويصبر حتى يقتل‏)‏ وكذا قطع العضو، وسب المسلم وأذاه، وضرب الوالدين ضربا مبرحا، لأن الظلم حرام شرعا وعقلا، لا يستباح بحال ولا بوجه ما، وكذا قتل المسلم البريء لا يباح بوجه ما ‏(‏فإن قتل أثم‏)‏ لقيام الحرمة ‏(‏والقصاص على المكره‏)‏ لأنه آلة له فيما يصلح أن يكون آلة وهو القتل، ولا يصلح أن يكون آلة في الإثم لأنه بالجناية على الدين وأنه حرام فلا يباح إلا من جهة صاحب الحق‏.‏ وقال أبو يوسف‏:‏ لا قصاص على واحد منهما لأن القصاص يندرئ بالشبهات وقد تحققت الشبهة في حق كل واحد منهما، أما المكره فهو محمول عليه، وأما المكره فلعدم المباشرة‏.‏ وقال زفر‏:‏ يجب على المكره لأن المباشرة موجبة للقتل ولهذا تعلق به الإثم، ولهما ما تقدم أنه آلة فيما يصلح، والقتل يصلح بأن يلقيه عليه وصار كمن أكره مجوسيا على ذبح شاة مسلم، فالفعل ينتقل إلى المكره في الإتلاف حتى يجب عليه الضمان ولا ينتقل الحكم حتى لا يحل أكلها‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن أكره على الردة لم تبن امرأته منه‏)‏ لأن البينونة تبتني على الردة والردة غير متحققة، لاحتمال عدم اعتقاد الكفر، بل هو الظاهر عند الإكراه؛ ولو اختلفا فالقول قوله في عدم الإعتقاد لأنه لا يعرف إلا من جهته‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ومن أكره على الزنا لا حد عليه‏)‏ لوجود الشبهة ويأثم بالفعل، ولو صبر كان مأجورا كالقتل، لأن الزنا لا يباح بوجه ما‏.‏ وقال أبو حنيفة أولا وهو قول زفر‏:‏ يحد لأن انتشار الآلة دليل الطواعية‏.‏ قلنا‏:‏ وقد يكون طبعا والشبهة موجودة، ولو أكرهت المرأة وسعها ذلك ولا تأثم، نص عليه محمد، لأن الفاعل الرجل دونها، لأن الإيلاج فعله فلم يتحقق الزنا منها، لكن تمكينها وسيلة إلى فعله فيباح عند الضرورة، ولو أمره ولم يكرهه في هذه المسائل كلها إلا أنه يخاف القتل إن لم يفعل فهو في حكم المكره لأن الإلجاء باعتبار الخوف، وقد تحقق‏.‏